فضل قراءة القرأن وتدبره
مقدمة.
خلق الله تعالى البشر لغاية عظيمة وحكمة جليلة وهي تحقيق
العبودية لله وحده
لا شريك له،
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ،
والعبادة هي حق الله الخالص على عباده لا يشاركه فيه أحد،
قال صلى الله عليه وسلم: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)(1).
ثم استخلفهم الله تعالى في الأرض واستعمرهم فيها،
قال تعالى: {هو أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ
إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61].
وبعث الله إليهم الرسل عليهم السلام، وأنزل عليهم الكتب، ليعرفوهم
بربهم ويعلموهم كيف يعبدوه، قال تعالى:
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}
[طه: 123، 124].
فالكتب المنزلة من الله تعالى هي دساتير لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه،
وبينه وبني جنسه، حتى يقوم الإنسان بالقسط
في عبادته لله وفي جميع شؤون حياته المختلفة،
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
ولا شك أن القرآن الكريم هو آخر هذه الكتب المنزلة
من عند الله تعالى، وهو أشرفها وأكملها،
وهو أيضا ناسخ لتلك الكتب جميعا ومهيمن عليها،
قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
2-
تعريف القرآن الكريم.
يقول أهل العلم في تعريف القرآن هو:
(الكلام، المعجز، المنزل
على النبي صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المنقول
عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته)(2).
و(هذا التعريف جمع بين الإعجاز، والتنزيل على النبي، والكتابة
في المصاحف، والنقل بالتواتر، والتعبد بالتلاوة،
وهي الخصائص العظمى التي امتاز بها القرآن الكريم)(3).
وأهل السنة والجماعة يضيفون الكلام إلى الله،
ويصفونه به كما يليق به، ويقولون في تعريف القرآن هو:
(كلام الله المنزل على محمد صلى الله المتعبد بتلاوته...)(4).
فهو إذن:
(
كلام الله تعالى):
فليس القرآن كلام جبريل عليه السلام ولا أحد من
الملائكة، وليس كلام رسول الله صلى الله صلى الله ولا غيره من البشر،
فقد أضافه الله إلى نفسه لكونه صفة له سبحانه قال تعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
(المنزل من عند الله تعالى):
(فمنه بدأ وإليه يعود) قال تعالى:
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2].
(على محمد):
فخرج بذلك ما نزل على غيره من الأنبياء والمرسلين
عليهم السلام كالتوراة والإنجيل وغيرهما.
(المتعبد بتلاوته):
لأنه يقرأ للتعبد وإن لم يعرف معناه، قال صلى الله عليه وسلم:
(من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول:
آلم حرف،
ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)(5)، ولا يشرع التعبد بغيره
كالأحاديث النبوية والأحاديث القدسية.
(المعجز بلفظه):
حيث تحدى الله العرب وغيرهم من باب الأولى
أن يأتوا بمثله، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24].
(المنقول بالتواتر):
(وخرج بالمنقول تواترا جميع ما سوى القرآن من منسوخ التلاوة والقراءات غير المتواترة، سواء أكانت مشهورة نحو قراءةابن مسعود (متتابعات) عقيب
قوله تعالى: {مَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، أم كانت آحادية كقراءة ابن مسعود أيضا لفظ (متتابعات) عقيب قوله سبحانه: {وَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 124]،
فإن شيئا من ذلك لا يسمى قرآنا ولا يأخذ حكمه)(6).
3- فضل قراءة القرآن الكريم.
لقراءة القرآن الكريم فضل كبير وثواب جزيل، وقد ورد في ذلك
نصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ومن ذلك
على سبيل المثال:
أولا: من القرآن الكريم.
- قوله تعالى:
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45].
وعند أهل التفسير وجهان لتفسير هذه الآية الكريمة:
الأولى: أن الله تعالى يجعل بين قارئ القرآن وبين الكفار
والمشركين حجابا فلا يعقلون عنه ما يتلو عليهم
من كلام الله، وذلك كما في قوله تعالى:
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5].
الثاني: أن الله تعالى يجعل بين قارئ القرآن وبين أعدائه
من الكفار حجابا يستره عنهم فلا يرونه ولو كان ماثلا أمامهم، ولقد
حصل مثل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما
أرادت أم جميل امرأة أبي لهب أن تنال منه،
فقرأ شيئا من القرآن يعتصم به منها،
فجاءت إلى المجلس الذي فيه رسول الله وأبو بكر الصديق
رضي الله عنه، فلم تر رسول الله لما جعل الله بينه وبينها
من الحجاب المستور(7).
- قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29].
قال ابن كثير رحمه الله: (يخبر تعالى عن عباده المؤمنين
الذين يتلون كتابه، ويؤمنون به، ويعملون بما فيه:
من إقام الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في
الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية
{يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله)(.
-
قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4].
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله:
(والترتيل: جعل الشيء مرتلا، أي مفرقا،
وأصله من قولهم: ثغر مرتل، وهو المفلج الأسنان،
أي المفرق بين أسنانه تفريقا قليلا بحيث لا تكون
النواجذ متلاصقة، وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته،
أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحة مع إشباع الحركات التي تستحق الإشباع)(9).
وفي الآية الكريمة أمر بقراءة القرآن الكريم، وأمر بتحسين القراءة وتدبر المعاني.
- قوله صلى الله صلى الله عليه وسلم: (
من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)(10).
- قوله صلى الله عليه وسلم: (
اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه،
اقرءوا الزهراوين:
البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما
غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير
صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة،
فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة).
- قوله صلى الله عليه وسلم: ما من قوم يجتمعون في بيت من
بيوت الله عز وجل يقرؤون ويتعلمون كتاب الله عز وجل
يتدارسونه بينهم إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم
الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده)(11).
4 –
تدبر القرآن:
ولا بد عند قراءة القرآن الكريم من التدبر والتأمل لمعانيه،
قال تعالى:
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}
[النساء: 28]، وقال سبحانه:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
وتدبر القرآن هو كما يقول الإمام الخازن رحمه الله تعالى:
(أصل التدبر في عواقب الأمور والتفكر في أدبارها ثم استعمل في
كل تفكر وتأمل، ويقال تدبرت الشيء أي نظرت في عاقبته ومعنى
تدبر القرآن تأمل معانيه وتفكر في حكمه وتبصر ما فيه من الآيات)(12).
ولتدبر كتاب الله والتأمل فيه طرق وأساليب توصل إلى المقصود
منه وهو فهم كتاب الله فهما صحيحا للعمل به وفق هذا
الفهم، ومن تلك الطرق والأساليب:
أولا: تأمل ما فيه من دلائل وحدانية الله تعالى.
إن أعظم مقاصد التنزيل وأهمها على الإطلاق دعوة الناس
إلى الإيمان بالله توحيده،
والكفر بجميع ما سواه من الآلهة الباطلة،
ولذلك لا تكاد تخلوا سورة من سور القرآن من الدعوة إلى
التوحيد ونبذ الشرك والتنديد.
وقد صرف الله في ذلك من الآيات ونوع من البراهين
والأدلة ما لا يدع لمشرك أو لكافر ملحد شبهة يتمسك بها في
إثبات كفره وإلحاده،
قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
في تقرير توحيد الربوبية نجد قوله تعالى:
{وفي توحيد الأسماء والصفات نجد قوله تعالى: {
هُوَ اخَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ
مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10، 11]،
وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}
[الطور: 35]، وغير ذلك من الآيات.
وفي توحيد الألوهية نجد قوله تعالى:
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ
مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا
شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ
الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ
وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ
إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء
الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62)
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
[النمل: 60-64]. وغيرها من الآيات.
للَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[الحشر: 22-24].
ووضع منهجا واضحا لفهم معاني الأسماء والصفات
والإيمان بها يتضمن إثباتها ووصف الله بها كما
يليق به سبحانه وتعالى، ونفي ما يتوهمه الملحدون من
الشبه والمثلية، وذلك في قوله تعالى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
ثانيا: تأمل ما فيه من الأحكام وأسرار التشريع.
ومن مقاصد التنزيل أيضا بيان ما يتعلق بأفعال المكلفين من
الأحكام المطلوب فعلها أو الكف عنها، أو المخير
فيها بين الأمرين، (الأحكام التكليفية)، وآثار وصفات
تلك الأفعال وجودا أو عدما (الأحكام الوضعية)،
فقد ورد في القرآن الكريم بيان كل ذلك، بل
ومقرونا في أحيان كثيرة بالإشارة إلى أسرارها وغاياتها ومقاصدها.
تأمل في ما ورد في القرآن
من النهي عن أكل بعض المحرمات، كما في
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن
تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ...} [المائدة: 3].
وتدبر ما نزل في النهي عن شرب الخمر
ولاحظ حكمة الشارع في التدرج في التشريع، حيث نزل فيه
أولا قوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ
كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]،
ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ
سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 34]،
وأخيرا نزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
وهكذا نجد القرآن الكريم في غاية الدقة ومنتهى
الحكمة في ما يحرم أو يبيح، وإنما اقتصرنا في
التمثيل على المحرمات لكونه أقل بكثير مما أبيح.
ثالثاً: تأمل ما فيه من دعوة إلى مكارم الأخلاق.
كاد أن يكون تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس محور مقاصد
الرسالة المحمدية، وخلاصة مضمونها، قال تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2]، وقال صلى الله عليه وسلم:
(ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)(13).
ولذلك نجد في القرآن الدعوة إلى التخلي عن الأخلاق الذميمة
والتحلي بالأخلاق الحسنة، ففي سورة الحجرات
مثلا نجد جملة من الآداب الاجتماعية والأخلاق الإسلامية
التي يدعوا إليها الإسلام، وعلى رأسها: الأدب مع الله
ورسوله، ثم الأمر بالتثبت في الأخبار، ثم الأمر بالإصلاح
بين الناس، ثم النهي عن السخرية، ثم النهي
عن التنابذ بالألقاب، ثم النهي عن سوء الظن
، ثم النهي عن التجسس، ثم النهي عن الغيبة.
رابعاً: تأمل ما فيه من وجوه الإعجاز المتنوعة.
فالقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي تظل إلى يوم القيامة
شاهدة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك
لأنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الناس كافة،
ولإعجاز القرآن أنواع، فمنه الإعجاز التشريعي
الذي يظهر في التأمل فيما جاء به القرآن من
شرائع عادلة شاملة لتنظيم الحياة كل الحياة،
وإسعاد البشر كل البشر، كما قال تعالى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
[النمل: 76]، والإعجاز البياني الذي يظهر في
التأمل في أساليب القرآن الفصيحة وتعابيره البليغة
كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ
يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1]،
وكما قال سبحانه: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
[الزمر: 28]، وكذلك الإعجاز العلمي الذي يظهر
في ما جاء به القرآن من حقائق علمية في
مجالات العلم المختلفة.
والتأمل في كل هذه الأمور والتفكر فيها يقوي الإيمان
في القلوب، ويهدي إلى العمل بالقرآن وتطبيق تعاليمه
في كل ناحية من نواحي الحياة المختلفة.